فوائد مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام للسعدي -الجزء الثاني
أخبار عاجلة
تحميل ...

الاثنين، 18 يوليو 2016

فوائد مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام للسعدي -الجزء الثاني


سورة يوسف

- ينبغي للإنسان أن يعدل بين أولاده .
- الحث على التحرز مما يخش ضره .
- أن من الحزم إذا أراد العبد فعلاً من الأفعال أن ينظر إليه من جميع الإحتمالات .
- الحذر من الذنوب.
- ما هو البرهان في سورة يوسف .
- وتفسير هم بها وهمت به .


ومن فوائد هذه القصة أنه يتعين على الإنسان أن يعدل بين أولاده . وينبغي له إذا كان يحب أحدهم أكثر من غيره أن يخفي ذلك ما أمكنه , وأن لا يفضله بما يقتضيه الحب من إيثار بشيء من الأشياء , فإنه أقرب إلى صلاح الأولاد وبرهم به واتفاقهم فيما بينهم ; ولهذا لما ظهر لإخوة يوسف من محبة يعقوب الشديدة ليوسف وعدم صبره عنه وانشغاله به عنهم سعوا في أمر وخيم , وهو التفريق بينه وبين أبيه . فقالوا : { ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين } [ سورة يوسف : الآيتان 8 , 9 ] 

وهذا صريح جدا أن السبب الذي حملهم على ما فعلوا بيوسف من التفريق بينه وبين أبيه هو تميزه بالمحبة , خلاف ما ذكر كثير من المفسرين أن يوسف أخبرهم برؤياه - فحسدوه لذلك فإنه مناف للآية الكريمة , وسوء ظن بيوسف حيث استكتمه أبوه فقال : { يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا } [ سورة يوسف : الآية 5 ] فيوسف أبر وأعقل من أن يخبرهم بها , ولكن كثير من الإسرائيليات تروج على كثير من الناس , مع أن أقل تأمل في النصوص الشرعية يعلمهم ببطلانها . والمقصود : أن الذي حمل إخوة يوسف على ما فعلوا هو تمييز يعقوب ليوسف , ومع هذا فلا يحل هذا الأمر الشنيع . وهم يعلمون أنه لا يحل  لهم , ولكنهم قالوا : افعلوا هذا الجرم العظيم وتوبوا إلى الله بعده . فلهذا قالوا : { وتكونوا من بعده قوما صالحين } [ سورة يوسف : الآية 9 ] وهذا لا يحل أن يواقع العبد الذنب بأي حالة يكون , ولو أضمر أنه سيتوب منه , فالذنب يجب اجتنابه فإذا وقع وجبت التوبة منه . ولعل من حكمة الله ورحمته بيعقوب ما قدره عليه من الفرقة التي أحدثت له من الحزن والمصيبة ما أحدثت رفعة لمقاماته في الدنيا والآخرة , ولتكون النعمة عند حصول الاجتماع لها الموقع الأكبر والشكر الكثير والثناء على الله بها , وليصل ولده يوسف إلى ما وصل إليه من المقامات الجليلة , وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم , والله يعلم وأنتم لا تعلمون .

ومن فوائد الحث على التحرز مما يخشى ضره لقوله : { يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا } [ سورة يوسف : الآية 5 ] وما فيها من التأكيد عليهم في حفظه حين أرسله معهم ثم عند إرسال أخيه بنيامين بعد ذلك أخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك . فالإنسان مأمور بالاحتراز , فإن نفع فذاك , وإلا لم يلم العبد نفسه .

 ومنها أن من الحزم إذا أراد العبد فعلا من الأفعال أن ينظر إليه من جميع نواحيه ويقدر كل احتمال ممكن , وأن الاحتراز بسوء الظن لا يضر إذا لم يحقق بل يحترز من كل احتمال يخشى ضرره , ولو تضمن ظن السوء بالغير إذا كانت القرائن تدل عليه وتقتضيه , كما في هذه الآية , وكما قويت القرائن في قوله : { هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل } [ سورة يوسف : الآية 64 ] فإنه سبق لهم في أخيه ما سبق فلا يلام يعقوب إذا ظن بهم هذا الظن , وإن كانوا في الأخ الأخير لم يجر منهم تفريط ولا تعد . 
ومنها الحذر من الذنوب , خصوصا الذنوب التي يترتب عليها ذنوب أخر ويتسلسل شرها , كما فعل إخوة يوسف بيوسف , فإنه نفس فعلهم فيه عدة جرائم في حق الله وفي حق والديه وقرابته وفي حق يوسف ; ثم يتسلسل كذبهم كلما جرى ذكر يوسف وقضيته أخبروا بهذا الكذب الفظيع ولهذا حين تابوا وخضعوا وطلبوا من أبيهم السماح : { قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين } [ سورة يوسف : الآية 97 ]

ومنها أن بعض الشر أهون من بعض ; فحين اتفقوا على التفريق بين يوسف وأبيه ورأى أكثرهم أن القتل يحصل به الإبعاد الأبدي : { قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين } [ سورة يوسف : الآية 10 ] فخفف به الشر عنهم ولهذا لما وردت السيارة الماء وأدلى واردهم دلوه تبشر بوجوده وقال : { هذا غلام } [ الآية 19 ] وكان إخوته حوله فقالوا : إنه غلام أبق منا ; وتبايعوا معهم : { وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين } [ الآية 20 ] وإنما قصدهم إبعاده والتأكيد على مشتريه منهم , صورة , أن يحتفظ به لئلا يهرب . ومن لطف الله أن الذي أخذه باعه في مصر على عزيزها , فحين رآه رغب فيه جدا وأحبه وقال لامرأته : { أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا } [ الآية 21 ] فبقي مكرما عندهم معفى عن الأشغال الشاقة وغيرها متجردا للخير . وهذا من اللطف بيوسف ولهذا قال :  { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث } [ الآية 21 ] فكان تفرغه عند العزيز من أسباب تعلمه للعلوم النافعة ليكون أساسا لما بعده من الرفعة في الدنيا والآخرة . كما أن رؤياه مقدمة اللطف , وكما أن الله أوحى إليه حين ألقاه إخوته في الجب : { لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } [ الآية 15 ] وهذه بشارة له بالنجاة مما هو فيه , وأنه سيصل إلى أن ينبئهم بأمرهم وهم لا يشعرون . وقد وقع ذلك في قوله : { هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون } [ الآية 89 ] إلى آخر الآيات . 

وألطاف المولى لا تخطر على البال , ومنها أن العبرة في حال العبد بكمال النهاية لا بنقص البداية , وذلك أن إخوة يوسف جرى منهم ما جرى من هذه الجرائم , لكن في آخر أمرهم ونهايته تابوا إلى الله , وطلبوا السماح من أخيهم يوسف ومن والديهم الاستغفار , فحصل لهم السماح التام والعفو الكامل فعفا الله عنهم وأوصلهم إلى الكمال اللائق بهم . قيل إن الله جعلهم أنبياء , كما قاله غير واحد من المفسرين في تفسير الأسباط : إنهم إخوة يوسف الاثنا عشر . وقيل بل كانوا قوما صالحين ; كما قاله آخرون ; وهو الظاهر , لأن المراد بالأسباط قبائل بني إسرائيل , وهو اسم لعموم القبيلة لأولاد يعقوب الاثني عشر فهم آباء الأسباط وهم من الأسباط ولهذا في رؤيا يوسف رآهم بمنزلة الكواكب في إشراقها وعلوها , وهذه صفة أهل العلم والإيمان والله أعلم .

 ولهذا تفسر رؤيا الشمس والقمر والكواكب بالعلماء والصالحين وقد تفسر بالملوك , والمناسبة ظاهرة ومنها تكميل يوسف صلوات الله عليه لمراتب الصبر , الصبر الاضطراري : وهو صبره على أذية إخوته وما ترتب عليها من بعده عن أبويه وصبره في السجن بضع سنين ; والصبر الاختياري : صبره على مراودة سيدته امرأة العزيز مع وجود الدواعي القوية من جمالها وعلو منصبها وكونها هي التي راودته عن نفسه وغلقت الأبواب  وهو في غاية ريعان الشباب , وليس عنده من قرابته ومعارفه الأصليين أحد . ومع هذه الأمور , ومع قوة الشهوة , منعه الإيمان الصادق والإخلاص الكامل من مواقعة المحذور . وهذا هو المراد بقوله : { لولا أن رأى برهان ربه } [ الآية 24 ] فهو برهان الإيمان الذي يغلب جميع القوى النفسية فكان هو مقدم السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله , وهو رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله . ثم بعد ذلك راودته المرأة وراودته , واستعانت عليه بالنسوة اللاتي قطعن أيديهن فلم تحدثه نفسه , ولم يزل الإيمان ملازما له في أحواله حتى قال بعدما توعدته بقولها : { ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } [ الآيتان 32 , 33 ] فاختار السجن على مواقعة المحظور ; ومع ذلك فلم يتكل على نفسه بل استغاث بربه أن يصرف عنه شرهن , فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن , إنه هو السميع العليم . 

وكما أنه كمل مراتب الصبر فقد كمل مراتب العدل والإحسان للرعية حين تولى خزائن البلاد المصرية , وكمل مراتب العفو والكرم حين قال له إخوته : { تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } [ الآيتان 91 , 92 ] فارتقى صلى الله عليه وسلم إلى أعلى مقامات الفضل والخير والصدق والكمال , ونشر الله له الثناء بين العالمين .عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله .
لقراءة الجزء الأول من هنا .
لاتنسوني من صالح دعائكم .
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


جميع الحقوق محفوضة لمدونة كاتب مستقل2015/2016

تصميم : تدوين باحتراف