![]() |
سورة يوسف |
- ينبغي للإنسان أن يعدل بين أولاده .
- الحث على التحرز مما يخش ضره .
- أن من الحزم إذا أراد العبد فعلاً من الأفعال أن ينظر إليه من جميع الإحتمالات .
- الحذر من الذنوب.
- ما هو البرهان في سورة يوسف .
- وتفسير هم بها وهمت به .
ومن فوائد هذه القصة أنه يتعين على الإنسان أن
يعدل بين أولاده . وينبغي له إذا كان يحب أحدهم أكثر من غيره أن
يخفي ذلك ما أمكنه , وأن لا يفضله بما يقتضيه الحب من إيثار بشيء من الأشياء ,
فإنه أقرب إلى صلاح الأولاد وبرهم به واتفاقهم فيما بينهم ; ولهذا لما ظهر لإخوة
يوسف من محبة يعقوب الشديدة ليوسف وعدم صبره عنه وانشغاله به عنهم سعوا في أمر
وخيم , وهو التفريق بينه وبين أبيه . فقالوا : { ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا
ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم
وتكونوا من بعده قوما صالحين } [ سورة يوسف : الآيتان 8 , 9 ]
وهذا صريح جدا أن
السبب الذي حملهم على ما فعلوا بيوسف من التفريق بينه وبين أبيه هو تميزه بالمحبة
, خلاف ما ذكر كثير من المفسرين أن يوسف أخبرهم برؤياه - فحسدوه لذلك فإنه مناف
للآية الكريمة , وسوء ظن بيوسف حيث استكتمه أبوه فقال : { يا بني لا تقصص رؤياك
على إخوتك فيكيدوا لك كيدا } [ سورة يوسف : الآية 5 ] فيوسف أبر وأعقل من أن
يخبرهم بها , ولكن كثير من الإسرائيليات تروج على كثير من الناس , مع أن أقل تأمل
في النصوص الشرعية يعلمهم ببطلانها . والمقصود : أن الذي حمل إخوة يوسف على ما
فعلوا هو تمييز يعقوب ليوسف , ومع هذا فلا يحل هذا الأمر الشنيع . وهم يعلمون أنه
لا يحل لهم , ولكنهم قالوا : افعلوا هذا
الجرم العظيم وتوبوا إلى الله بعده . فلهذا قالوا : { وتكونوا من بعده قوما صالحين
} [ سورة يوسف : الآية 9 ] وهذا لا يحل أن يواقع العبد الذنب بأي حالة يكون , ولو
أضمر أنه سيتوب منه , فالذنب يجب اجتنابه فإذا وقع وجبت التوبة منه . ولعل من حكمة
الله ورحمته بيعقوب ما قدره عليه من الفرقة التي أحدثت له من الحزن والمصيبة ما
أحدثت رفعة لمقاماته في الدنيا والآخرة , ولتكون النعمة عند حصول الاجتماع لها
الموقع الأكبر والشكر الكثير والثناء على الله بها , وليصل ولده يوسف إلى ما وصل
إليه من المقامات الجليلة , وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم , والله يعلم وأنتم
لا تعلمون .
ومن فوائد الحث على التحرز مما يخشى ضره لقوله : { يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك
فيكيدوا لك كيدا } [ سورة يوسف : الآية 5 ] وما فيها من التأكيد عليهم في حفظه حين
أرسله معهم ثم عند إرسال أخيه بنيامين بعد ذلك أخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك . فالإنسان
مأمور بالاحتراز , فإن نفع فذاك , وإلا لم يلم العبد نفسه .
ومنها أن من الحزم إذا أراد العبد فعلا من الأفعال
أن ينظر إليه من جميع نواحيه ويقدر كل احتمال ممكن , وأن الاحتراز بسوء
الظن لا يضر إذا لم يحقق بل يحترز من كل احتمال يخشى ضرره , ولو تضمن ظن السوء
بالغير إذا كانت القرائن تدل عليه وتقتضيه , كما في هذه الآية , وكما قويت القرائن
في قوله : { هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل } [ سورة يوسف : الآية
64 ] فإنه سبق لهم في أخيه ما سبق فلا يلام يعقوب إذا ظن بهم هذا الظن , وإن كانوا
في الأخ الأخير لم يجر منهم تفريط ولا تعد .
ومنها الحذر من الذنوب , خصوصا الذنوب التي يترتب
عليها ذنوب أخر ويتسلسل شرها , كما فعل إخوة يوسف بيوسف , فإنه نفس فعلهم فيه عدة
جرائم في حق الله وفي حق والديه وقرابته وفي حق يوسف ; ثم يتسلسل كذبهم كلما جرى
ذكر يوسف وقضيته أخبروا بهذا الكذب الفظيع ولهذا حين تابوا وخضعوا وطلبوا من أبيهم
السماح : { قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين } [ سورة يوسف :
الآية 97 ]
ومنها أن بعض الشر أهون من بعض ; فحين اتفقوا على
التفريق بين يوسف وأبيه ورأى أكثرهم أن القتل يحصل به الإبعاد الأبدي : { قال قائل
منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين } [
سورة يوسف : الآية 10 ] فخفف به الشر عنهم ولهذا لما وردت السيارة الماء وأدلى
واردهم دلوه تبشر بوجوده وقال : { هذا غلام } [ الآية 19 ] وكان إخوته حوله فقالوا
: إنه غلام أبق منا ; وتبايعوا معهم : { وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه
من الزاهدين } [ الآية 20 ] وإنما قصدهم إبعاده والتأكيد على مشتريه منهم , صورة ,
أن يحتفظ به لئلا يهرب . ومن لطف الله أن الذي أخذه باعه في مصر على عزيزها , فحين
رآه رغب فيه جدا وأحبه وقال لامرأته : { أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا
} [ الآية 21 ] فبقي مكرما عندهم معفى عن الأشغال الشاقة وغيرها متجردا للخير .
وهذا من اللطف بيوسف ولهذا قال : { وكذلك
مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث } [ الآية 21 ] فكان تفرغه عند
العزيز من أسباب تعلمه للعلوم النافعة ليكون أساسا لما بعده من الرفعة في الدنيا
والآخرة . كما أن رؤياه مقدمة اللطف , وكما أن الله أوحى إليه حين ألقاه إخوته في
الجب : { لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } [ الآية 15 ] وهذه بشارة له بالنجاة
مما هو فيه , وأنه سيصل إلى أن ينبئهم بأمرهم وهم لا يشعرون . وقد وقع ذلك في قوله
: { هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون } [ الآية 89 ] إلى آخر الآيات
.
وألطاف المولى لا تخطر على البال , ومنها أن العبرة في حال العبد بكمال
النهاية لا بنقص البداية , وذلك أن إخوة يوسف جرى منهم ما جرى من هذه الجرائم
, لكن في آخر أمرهم ونهايته تابوا إلى الله , وطلبوا السماح من أخيهم يوسف ومن
والديهم الاستغفار , فحصل لهم السماح التام والعفو الكامل فعفا الله عنهم وأوصلهم
إلى الكمال اللائق بهم . قيل إن الله جعلهم أنبياء , كما قاله غير واحد من
المفسرين في تفسير الأسباط : إنهم إخوة يوسف الاثنا عشر . وقيل بل كانوا قوما
صالحين ; كما قاله آخرون ; وهو الظاهر , لأن المراد بالأسباط قبائل بني إسرائيل ,
وهو اسم لعموم القبيلة لأولاد يعقوب الاثني عشر فهم آباء الأسباط وهم من الأسباط
ولهذا في رؤيا يوسف رآهم بمنزلة الكواكب في إشراقها وعلوها , وهذه صفة أهل العلم
والإيمان والله أعلم .
ولهذا تفسر رؤيا الشمس والقمر والكواكب بالعلماء والصالحين
وقد تفسر بالملوك , والمناسبة ظاهرة ومنها تكميل يوسف صلوات الله عليه لمراتب
الصبر , الصبر الاضطراري : وهو صبره على أذية إخوته وما ترتب عليها من بعده عن
أبويه وصبره في السجن بضع سنين ; والصبر الاختياري : صبره على مراودة سيدته امرأة
العزيز مع وجود الدواعي القوية من جمالها وعلو منصبها وكونها هي التي راودته عن
نفسه وغلقت الأبواب وهو في غاية ريعان
الشباب , وليس عنده من قرابته ومعارفه الأصليين أحد . ومع هذه الأمور , ومع قوة
الشهوة , منعه الإيمان الصادق والإخلاص الكامل من مواقعة المحذور . وهذا هو المراد
بقوله : { لولا أن رأى برهان ربه } [ الآية 24 ] فهو برهان الإيمان الذي يغلب جميع
القوى النفسية فكان هو مقدم السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ,
وهو رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله . ثم بعد ذلك راودته
المرأة وراودته , واستعانت عليه بالنسوة اللاتي قطعن أيديهن فلم تحدثه نفسه , ولم
يزل الإيمان ملازما له في أحواله حتى قال بعدما توعدته بقولها : { ولئن لم يفعل ما
آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } [
الآيتان 32 , 33 ] فاختار السجن على مواقعة المحظور ; ومع ذلك فلم يتكل على
نفسه بل استغاث بربه أن يصرف عنه شرهن , فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن , إنه
هو السميع العليم .
وكما أنه كمل مراتب الصبر فقد كمل مراتب العدل والإحسان للرعية
حين تولى خزائن البلاد المصرية , وكمل مراتب العفو والكرم حين قال له إخوته : {
تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله
لكم وهو أرحم الراحمين } [ الآيتان 91 , 92 ] فارتقى صلى الله عليه وسلم إلى أعلى
مقامات الفضل والخير والصدق والكمال , ونشر الله له الثناء بين العالمين . عبد
الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله .
لقراءة الجزء الأول من هنا .
لاتنسوني من صالح دعائكم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق